علم تركيا إلى جانب علم السعودية وعناصر أمن سوريون (صورة من إعداد ريبيكا أبو رجيلي)

كتبت سارة تابت في الـ Entrevue:

خفتت ضجة انهيار نظام الأسد في سوريا، وباتت الوجهة اليوم هي لمناقشة النظام الجديد وإمكانية صموده بوجه التحديات وقدرته على تقديم مستقبل أفضل لسوريا والسوريين.

الباحث في الشؤون الإقليمية د. طلال عتريسي يشرح في حديث مفصّل مع الـ Entrevue: «سوريا على مفترق طرق لأن الانتقال الذي حصل فيها هو من نظام عمره ستون عاماً، وله نهج خاص بطريقة الحكم والإدارة وحتى العلاقات الخارجية والحلفاء، والتباين في المواقف الإقليمية من هذا النظام اختلفت اليوم بشكل جذري. أولاً تغيرت طبيعة النظام إلى نظام جديد خلفيته إسلامية متطرفة من داعش إلى هيئة تحرير الشام. لم يقم هذا النظام الجديد بأي مراجعة فكرية تثبت أنه انتقل إلى رؤية مختلفة في الحكم وفي إدارة البلاد خصوصاً أنه أتى من تجربة الحكم في إدلب إلى حكم دمشق وسوريا عموماً وهذا يجعل الأمور ملتبسة في سوريا. ثانياً الإستقرار لم يتحقق لغاية الآن في سوريا ونشهد استمرار الاشتباكات وعدم القبول في بعض المناطق بالخضوع للسلطة الجديدة عسكرياً وعدم استقرار الأمن وما يُنقل من الاعتداءات على أطراف لها انتماءات دينية وعقائدية، يجعل السؤال حول الاستقرار في سوريا سؤالاً منطقياً وجدياً» .

ويتابعُ الباحث في الشؤون الإقليمية د. طلال عتريسي: «أيضاً غير معلوم لغاية الآن طبيعة التفاهمات الإقليمية والدولية حول سوريا. التصريحات الإسرائيلية من نتنياهو وغيره تعتبر أن في سوريا نظام إرهابي إسلامي متطرِّف وأنه عليه أن يحمي الدروز في سوريا مثلاً. أوروبا تشجّع على التعاون والولايات المتحدة ترفع العقوبات بشكل جزئي ومؤقت، حتى أوروبا. ويبقى السؤال: هل ستنجح سوريا في تجاوز هذه المرحلة وتحقق الاستقرار، أم أن الوضع سيظل عالقاً بين الاستقرار والانفجار؟ الإخوان المسلمون في مصر حكموا سنة واحدة وانفتحوا على كل الدول الإقليمية حتى على المملكة العربية السعودية وعلى الولايات المتحدة وباقي الدول الإقليمية، لكن في نهاية المطاف لم يستمر حكمهم أكثر من سنة. هذا الوضع في سوريا يجعل السيناريوهات مفتوحة على كل الاحتمالات».

وحول النفوذ التركي في سوريا يقول عتريسي: «النفوذ التركي في سوريا يعتبر قوياً للغاية، حيث تهيمن تركيا على صناعة القرار في النظام الجديد، وهذا النظام كان يحظى بمثل هذا الدعم التركي عندما كان يسيطر على إدلب. تلك الهيمنة تثير العديد من التساؤلات حول إمكانية استكمال تركيا طموحاتها في السيطرة على سوريا ومن ثم تعزيز دورها في الشرق الأوسط. طموحات تركيا، التي يعبّر عنها الرئيس رجب طيب أردوغان، تعكس رغبة في استعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية التي كانت تمتدّ عبر مناطق واسعة، وقد تحدّث عنها أردوغان في مناسبات عديدة، خصوصاً خلال الثورة السورية وبعد مرور عشر سنوات من الصراع.

لكن، ورغم هذه الطموحات الكبيرة، يبقى الواقع مختلفًا تمامًا. فموقع سوريا الجغرافي والسياسي لا يسمح لأي دولة، بما في ذلك تركيا، بالسيطرة الكاملة على البلاد أو على الشرق الأوسط بشكل عام. ومن المتوقع أن نشهد تباينات في السياسات التركية مع بعض الدول الإقليمية الكبرى مثل المملكة العربية السعودية والإمارات، حيث ترى السعودية أن التخلي عن النفوذ الإيراني، كان يجب أن يؤدي إلى تقارب مع الحضن السعودي وليس التركي. كما أن زعامة تركيا في الشرق الأوسط تشكل تهديدًا واضحًا للزعامة السعودية في المنطقة. وعلى الرغم من أن تركيا تسيطر اليوم على بعض الجوانب من القرار في دمشق، إلا أن سوريا نفسها ليست محكومة بشكل كامل بالقرار التركي. فهناك مناطق في سوريا خاضعة لسيطرة القرار الإسرائيلي وأخرى تخضع للقرار الأميركي، بالإضافة إلى مناطق أخرى تحت النفوذ التركي.

وهذا يعني أن سوريا ليست محكومة بالكامل من قبل تركيا، إذ لا يزال هناك تداخل مع مصالح إقليمية ودولية متعددة. وبينما تظل طموحات تركيا في الشرق الأوسط واضحة، يبقَى أن الواقع المعقد يتطلب توازناً دقيقًا بين مختلف القوى الإقليمية والدولية. من المستبعد أن تتمكن تركيا من السيطرة على كامل المنطقة، لأن هناك مشاريع منافسة من دول أخرى، مثل إسرائيل، التي تسعى أيضًا لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط. وبالتالي، فإنَّ هذه الصراعات بينَ المشاريع المختلفة قد تؤدي إلى تصادمات مع أطراف إقليمية ودولية أخرى».

وَيتطرق د. طلال عتريسي الباحث في الشؤون الإقليمية للانتهاكات الإسرائيلية في سوريا فيقول: «الانتهاكات الإسرائيلية التي نراها اليوم تأتِي بهدفين أساسيين؛ الأول هو توسيع نطاق حماية الأمن الإسرائيلي وزيادة دائرة نفوذها في المنطقة. أما بالنسبة للغزل الإسرائيلي تجاه الدروز وتقديمهم الحماية لهم، فإن الهدف من وراء ذلك هو محاولة تفكيك سوريا وتحويل الدروز إلى قوة مستقلة تحت حماية إسرائيل، تماماً كما هو الحال بالنسبة للأكراد في مناطق أخرى، حيث يكون لهم حماية إسرائيلية وأميركية في نفس الوقت. هذا التوجه يعني أن سوريا ستظل غير موحدة، ويزيد من تعقيد وضعها على مفترق طرق. ولهذا السبب، بدأنا نسمع من رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق، السيد وليد جنبلاط، تحذيرات من تحالف الدروز مع إسرائيل، ما قد يؤدي إلى خلق وضع صعب لهم في بيئاتهم العربية والإسلامية، وربما يعرّضهم للنبذ أو التهديد. الهدف الإسرائيلي هنا، إذن، هو حماية الأقليات من جهة، وفي الوقت ذاته تفكيك سوريا إلى كيانات صغيرة ومتناحرة.

ومع التوتر الحاصل والسيناريوهات المفتوحة في سوريا، هل يعود اللاجئون السوريون إلى قراهم، يختتم عتريسي: «اللاجئون في لبنان أو النازحين ليس لديهم استعداد للعودة ولا يبدو أن النظام مستعد أيضاً لاستقبالهم وعودتهم فهؤلاء يحتاجون إلى خدمات غير متوفرة حالياً في سوريا. من جهة أخرى، المنظمات الدولية والإنسانية لا تبدو مستعجلة لإعادة هؤلاء النازحين إلى سوريا. وهذا يجب أن يدق ناقوس الخطر في لبنان على مستوى جميع الأطراف اللبنانية، لأن النظام السابق كان وضعه معلّقاً. أما الآن، فقد جاء نظام جديد، ولا نعلم ما هو مستقبله، وبالتالي، سيظل مصير النازحين مرتبطاً بمستقبل سوريا الغامض. وبناءً عليه، لن يعودوا بشكل طوعي وآمن. لذلك، يجب أن يكون هذا الأمر موضع بحث على أعلى المستويات الاستراتيجية عند التفكير بمستقبل لبنان نفسه.


سوريا الجديدة قد تكون بداية لمرحلة جديدة تمامًا تختلف عن سوريا القديمة، ولكن لا يمكن القول بأن سوريا الجديدة قد تبلورت بالكامل بعد. هي لا تزال في مرحلة التأسيس، والجميع في انتظار ما ستؤول إليه الأوضاع. هناك حالة من الترقب والخوف، والنظام الجديد في سوريا يخطو بحذر ويتلمس خطواته، فهو حتى الآن لا يمتلك ثوابت واضحة. من جهة، يريد النظام إعادة العلاقات مع إيران، لكنه في نفس الوقت يقف ضد إيران في بعض المسائل. يريد الحفاظ على العلاقات مع روسيا ويُصر على بقاء القواعد العسكرية الروسية في الأراضي السورية، ولكن من ناحية أخرى، يسعى جاهدًا لعدم إغضاب الأميركيين. كما أن الإسرائيليين قد احتلوا جزءًا كبيرًا من سوريا وبلغوا مشارف دمشق، والنظام الجديد لا يريد التحدث عن هذا الاحتلال.


بذلك، يمكننا القول أن سوريا الجديدة تختلف بشكل كبير عن سوريا القديمة في بعض الجوانب، لكن هناك العديد من القضايا العالقة. فحتى اليوم، لم يتبلور دستور جديد أو قوانين واضحة، ولا تزال مشاركة الأطياف المعارضة في العملية السياسية غائبة، رغم أن هذه الأطياف كانت قد شكلت لجانًا ومنصات كانت تواجه النظام السابق. علينا الانتظار ورؤية كيف ستتطور الأمور. وفي لبنان، يجب أن نترقب ونحسب حساباتنا، لأن الاستقرار في سوريا سيكون له انعكاسات إيجابية علينا، بينما الفوضى ستؤثر سلبًا على الوضع في لبنان».

البحث