الجريمة الرقمية

في عالمٍ رقمي يتطور بسرعة تفوق قدرة القوانين على مواكبته، لم تعد الجريمة مرهونة بسلاح مادي أو موقع جغرافي، بل أصبحت تُرتكب عن بُعد، خلف شاشات، وفي فضاء إلكتروني لا تعترف حدوده بالجغرافيا أو السيادة.

ومع توسع الجريمة السيبرانية عالميًا، بات المجرمون يستخدمون أدوات متطورة تجعلهم شبه غير مرئيين. ومع ذلك، يؤكد خبراء الأمن السيبراني أن الأدلة الرقمية تظل البصمة التي لا تُمحى، مهما بدت الجريمة مثالية.

أدوات التشفير والتخفي

بحسب الدكتور محمد محسن رمضان، رئيس وحدة الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني بمركز العرب للأبحاث والدراسات، يعتمد المجرمون الرقميون حاليًا على ثلاث أدوات رئيسية:

  1. التشفير القوي (Encryption): لحماية البيانات من التتبع، ومنع الوصول غير المصرح به.
  2. أدوات الإخفاء (Anonymization Tools): مثل شبكة “الدارك ويب” أو برامج مثل TOR التي تخفي هوية المستخدم عبر تمرير الاتصال في مسارات متعددة.
  3. الهجمات العابرة للحدود: حيث تُطلق الجريمة من دولة، بينما تقع آثارها في دول أخرى، مما يصعّب الملاحقة القانونية.

البصمة الرقمية لا تُمحى

ورغم تعقيد هذه الأساليب، يشير الدكتور رمضان إلى أن المحققين يعتمدون على تقنيات تتبع وتحليل متقدمة تكشف عن ثغرات قد يتركها الجناة، مثل سجلات الدخول (Log Files)، أو البيانات المحذوفة التي يمكن استرجاعها، إضافة إلى معلومات من الأجهزة المحمولة وإنترنت الأشياء (IoT) التي قد تفضح المتورطين دون علمهم.

كما أكد على أن التعامل مع هذه الأدلة يتم ضمن بروتوكولات صارمة تضمن نزاهة التحقيق، إذ إن أي خلل في جمعها أو تحليلها يمكن أن يؤدي إلى إسقاط القضية في المحكمة.

الذكاء الاصطناعي.. سلاح ذو حدين

وأوضح رمضان أن الذكاء الاصطناعي أصبح أيضًا جزءًا من معادلة الجريمة، حيث يستخدمه المجرمون لتطوير برمجيات خبيثة قادرة على التعلم والتطور، بجانب هجمات تصيّد موجهة (Spear Phishing) مبنية على تحليل دقيق لسلوك الضحايا. كما ظهرت تقنيات “التزييف العميق” (Deepfake)، التي تُستخدم في الابتزاز وخداع الجهات الأمنية عبر صور ومقاطع فيديو مزيفة يصعب تمييزها.

التحدي القانوني

من جانبه، شدد اللواء أبوبكر عبدالكريم، مساعد أول وزير الداخلية المصري الأسبق، على أن التحدي الأكبر لا يكمن في التكنولوجيا فقط، بل في تحويل الأدلة الرقمية إلى أدلة قانونية مقبولة.

وأوضح أن هناك عدة عقبات في هذا المجال، أبرزها:

  • ضرورة جمع الأدلة وفق إجراءات دقيقة لمنع الطعن فيها.
  • غموض الجهة القضائية المخولة بالمحاكمة في الجرائم العابرة للحدود.
  • صعوبة الوصول لبعض البيانات المشفّرة دون تعاون الشركات التقنية.
  • بطء تحديث التشريعات مقارنة بسرعة تطور الجرائم الرقمية.

نحو تشريعات عابرة للحدود

وأكد عبدالكريم أن الحل لا يكمن فقط في التكنولوجيا، بل في تطوير تشريعات دولية مرنة، وتعزيز التعاون بين الحكومات والقطاع الخاص، بما يشمل شركات التكنولوجيا الكبرى، إضافة إلى اعتماد الذكاء الاصطناعي كأداة كشف قانونية، تضمن مصداقية الأدلة وعدالة الإجراءات.

وختم بالتأكيد على أهمية التدريب المستمر للمحققين والقضاة، حتى لا تتحول التكنولوجيا الحديثة إلى ملاذ آمن للمجرمين.

البحث