141020175737_internet_in_2040_512x288_thinkstock.jpg

قبل انتشار حركة التنوير في أوروبا وتأثيرها على شخصيات مثل توماس باين وتوماس جيفرسون في أمريكا خلال حقبة الاستعمار، كان يُنظر إلى غالبية الناس على أنهم مجرد رعايا، يخضع حقهم في الحياة بالكامل لإرادة الملك أو الملكة. كما كانت حياتهم العملية تحددها ظروف ولادتهم، حيث كانوا ملزمين بخدمة اللورد أو البارون الذي يمتلك الأرض التي يعيشون عليها.

إلا أن مع قيام الديمقراطية الأميركية، تحوّل الأفراد إلى مواطنين، وهو مفهوم لم يكتفِ بالاعتراف بحقوقهم في الحرية والسعي وراء السعادة، بل ضمن أيضًا أن إرادتهم – وليس فكرة مزيفة عن الحق الإلهي – هي التي ستقرر من يحكمهم.

وعكس هذه المبادئ القائمة على الحرية، نرى أنفسنا اليوم في عصر جديد من “الإقطاع الرقمي”. فكما كان الفلاحون في الماضي يخضعون لسلطة الملوك والنبلاء، أصبحنا الآن تحت سيطرة مجموعة صغيرة من الشركات العملاقة التي استغلت الطبيعة الهيكلية للإنترنت لصالحها. وضمن هذا النظام، يُعامل الأفراد كعناصر هامشية – أو حتى غير مرئية – في عملية بناء منصات ضخمة متخصصة في استخراج البيانات.

وفي الولايات المتحدة، تتألف هذه “الزمرة الحاكمة” من عمالقة التكنولوجيا مثل: ألفابت (الشركة الأم لجوجل)، ميتا (فيسبوك وإنستغرام)، أمازون، آبل، ومايكروسوفت، التي دخلت سباق السيطرة على البيانات من خلال استثماراتها الضخمة، مثل استثمارها في أوبن آي. وقد منح هذا النفوذ الضخم لمؤسسي هذه الشركات ومديريها التنفيذيين ومستثمريها الرئيسيين قوة غير مسبوقة في توجيه الإنترنت والتحكم فيه.

أما اليوم فتخضع حياتنا لإرادة “الخوارزميات الملكية” التي طورتها هذه الشركات. إذ تتعامل برمجياتها مع بياناتنا باعتبارها موردًا أساسيًا يُستخرج ويُستخدم لإنشاء أدوات قادرة على التأثير علينا وتوجيه سلوكنا. ووفقًا لتقرير صادر عن مؤسسة بروبابليكا عام 2016، كانت “فيسبوك” تجمع آنذاك نحو 52 ألف نقطة بيانات عن كل مستخدم. ومن المرجح أن يكون هذا الرقم اليوم قد ارتفع كثيرًا، مما يعكس كيفية تعامل هذه المنصات معنا كأصول رقمية تُستخدم لأغراض تجارية.

تعمل هذه الشركات من خلال أنظمة “الصندوق الأسود” السرية، حيث تُجمع بيانات المستخدمين دون شفافية، ثم يُعاد تشكيلها في ملفات شخصية تُستخدم لاستهدافنا بالإعلانات والمحتوى. وبهذه الطريقة، يُسلب الأفراد إنسانيتهم، تمامًا كما جرد الإقطاعيون القدماء الفلاحين من حقوقهم.

ومما يزيد من خحم المشكلة، أن هذه الشركات لا تلتزم بأي عقد اجتماعي يضمن حماية المستخدمين، بل تُخفي سياساتها في عقود قانونية طويلة مكتوبة بخط صغير، تفرض علينا التنازل عن حقوقنا الرقمية دون وعي كامل بعواقب ذلك. وبذلك، أصبحنا عمليًا نخضع لهيمنة شركات التكنولوجيا الكبرى، التي فرضت علينا واقعًا رقميًا جديدًا لا نملك السيطرة عليه.

وبدأ هذا التوجه منذ عقدين، إلا أن الوعي العام بخطورته لم يظهر إلا في السنوات الأخيرة، حيث أدرك كثيرون مدى التنازلات التي قدموها دون أن يدركوا تأثيرها على حريتهم. في هذا السياق، يُعد كتاب “عصر رأسمالية المراقبة” للمؤلفة شوشانا زوبوف، الصادر عام 2018، أحد الأعمال الرائدة التي كشفت كيف تحول استخراج البيانات إلى نموذج أعمال أساسي لمنصات مثل “جوجل” و”فيسبوك”.

وتمكن “فيسبوك” من تطوير حلقة متواصلة من ردود الفعل، حيث راقب نشاط مستخدميه، ثم استخدم هذه البيانات لتعديل خوارزمياته بما يدفع المستخدمين للبقاء فترة أطول والتفاعل أكثر مع المحتوى. ونتيجة لذلك، أصبح سلوك المستخدمين خاضعًا لتعديلات مستمرة تخدم الأهداف التجارية للمنصة. وبلغت هذه الظاهرة ذروتها مع فضيحة “فيسبوك – كامبريدج أناليتيكا” عام 2018، حيث جُمعت بيانات المستخدمين دون إذن، واستُخدمت للتأثير على الانتخابات الأمريكية عام 2016، وكذلك على استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

إلا أن هذه الفضيحة ليست سوى قمة جبل الجليد. فالتأثير الأعمق والأكثر خفاءً لنموذج استخراج البيانات يكمن في الطريقة التي يعيد بها تشكيل تصوراتنا للعالم، ويوجه ردود أفعالنا تجاه القضايا المهمة، ويضعنا في مرمى الإعلانات المستهدفة. ووفقًا لما أوضحته زوبوف، فإن هذا النموذج الاقتصادي يستغل إرادتنا الحرة، مما يشكل تهديدًا مباشرًا لكل من الديمقراطية والاقتصاد الحر.

قد يفكر البعض أنهم غير متأثرين بهذا التأثير، وأنهم يملكون السيطرة الكاملة على قراراتهم. لكن الواقع مختلف، إذ قضت هذه الشركات عقودًا في دراسة سلوكياتنا وتحليلها لمعرفة ما الذي يحفزنا للنقر، أو الإعجاب، أو المشاركة. لقد تعلمت خوارزمياتها اكتشاف ميولنا السياسية، واهتماماتنا، وعاداتنا اليومية، بل وحتى تقلبات مزاجنا. يُقال، على سبيل المثال، إن “فيسبوك” قادر على التنبؤ بانفصالك عن شريك حياتك قبل حدوثه بفترة طويلة!

وتثير السلطة المتزايدة للشركات الرقمية مخاوف جدية بشأن الثمن الذي ندفعه مقابل استخدام منصاتها. فبينما ارتفعت تكاليف الضروريات مثل الرعاية الصحية والتعليم والإسكان على مدى العقدين الماضيين، تراجعت أسعار المنتجات الرقمية التي تعتمد على استخراج بياناتنا، مثل الهواتف الذكية والبرمجيات. هذا التناقض يكشف أن بياناتنا هي التي تمول وجودنا الرقمي، وقد تحولت إلى عملة العصر الحديث.

وختاماً، لا بد أن ندرك أن “إذا كان المنتج مجانيًا، فنحن لسنا العملاء، بل السلعة” – كما قال خبير الأمن السيبراني بروس شناير قبل نحو عقد. وإذا لم نتحرك لاستعادة السيطرة على بياناتنا، فإننا سنظل رهائن لهذا النظام الإقطاعي الرقمي، حيث تُستغل معلوماتنا الشخصية دون رادع، وتُصاغ حياتنا وفقًا لأولويات عمالقة التكنولوجيا، وليس وفقًا لإرادتنا الحرة.

البحث