في واحدة من أكثر التحركات الجيوسياسية هدوءًا وضجيجًا في الوقت ذاته، تمد روسيا نفوذها على السواحل الإفريقية، بحثًا عن غذاء يضمن أمنها القومي، وعوائد بالدولار لتقوية اقتصادها المحاصر بالعقوبات، إضافةً إلى موطئ قدم جديد في سباق النفوذ العالمي.
خلال الأشهر الأخيرة، كثفت موسكو إرسال سفن “بحث علمي” إلى مياه المغرب والسنغال وسيراليون وموريتانيا. ورغم أن هذه الرحلات تُقدم رسميًا على أنها لأغراض المسح البيئي ودراسة مخزون الأسماك، تؤكد وكالة بلومبرغ أن الهدف الحقيقي يكمن في توقيع صفقات حصرية لصيد الأسماك وبيعها عالميًا بالدولار، بالإضافة إلى بناء شراكات تمنح روسيا السيطرة على قطاع يمثل مليارات الدولارات من العملة الصعبة.
بعد عقود من المنافسة المحتدمة بين الولايات المتحدة وفرنسا والصين على موارد القارة الإفريقية كالذهب والألماس، يتجه الاهتمام اليوم نحو ثروة أقل لمعانًا لكنها ذات قيمة كبيرة: الأسماك الإفريقية، التي تعد مصدرًا رئيسيًا للغذاء والعملات الأجنبية في غرب إفريقيا. ومع ذلك، يشهد هذا المورد تراجعًا حادًا، إذ تخسر القارة حوالي 9.4 مليارات دولار سنويًا بسبب الصيد غير القانوني، بينما تتآكل المخزونات البحرية بسرعة، الأمر الذي دفع دولًا مثل سيراليون لتعليق الصيد المحلي لمدة شهر كامل لإنقاذ ما تبقى.
وجدت روسيا في هذا الواقع فرصة ذهبية. فهي تقدم نفسها كـ “الصديق القديم” و”الشريك العادل” مقارنةً بالدول الغربية والصين، التي تُتهم بنهب البحار لسنوات. هذا الخطاب لاقى صدى لدى بعض حكومات غرب إفريقيا، الباحثة عن شريك قوي لا يفرض شروطًا سياسية، ويمنح خبرة وتقنيات ومسوحًا بحرية متقدمة.
روسيا وقّعت بالفعل اتفاق صيد مع المغرب، وتخوض محادثات مماثلة مع سيراليون ودول ساحلية أخرى. وقبل توقيع أي عقد، ترسل سفنها لإجراء مسح لقاع البحر وتحديد المواقع التي ستضع فيها شباكها خلال السنوات المقبلة.
تستعد سيراليون لاستقبال 20 سفينة روسية ضمن اتفاق يمنح موسكو حق صيد يصل إلى 40 ألف طن سنويًا، وهو رقم كبير بالنسبة لدولة تكافح لاستعادة مخزونها السمكي المتراجع.
بالنسبة لروسيا، هذا الاتفاق لا يقتصر على التجارة، بل يمثل استثمارًا جيوسياسيًا في الأمن الغذائي والنفوذ البحري في منطقة تتنافس عليها القوى الكبرى. ما تقدمه موسكو قد يكون مغريًا لدول تبحث عن شريك جديد لإعادة تنظيم قطاع الصيد وتحقيق عوائد مالية سريعة.
لكن السؤال الأكبر يبقى: هل ستحافظ روسيا على الثروة السمكية، أم ستتبع أساليب الاستنزاف كما فعل الآخرون؟ كما يتساءل البعض: هل ستسمح الدول الإفريقية بأن تصبح مجرد ساحة جديدة لصراع القوى العالمية؟ السنوات المقبلة ستكشف ما إذا كانت موسكو جاءت لإنقاذ البحار، أم لتوسيع نفوذها فوق أمواجها.