جاء في الشرق الأوسط:
طوال 80 عاماً من عمره (تأسس في 1 أغسطس/آب 1945) لم يكن الجيش اللبناني يوماً على هامش المعادلات الكبرى في البلاد. ومنذ انتهاء الحرب الأهلية، ظلّ في قلب الصراعات، ضامناً للاستقرار وسط الصراعات السياسية والتوازنات الداخلية والإقليمية.
ووسط شدّ الحبال السياسية بين القوى المحلية المتصارعة، وضغط السلاح الخارج عن الدولة، تحوّل الجيش، الذي احتفل الجمعة بالذكرى الـ80 لتأسيسه، إلى ما يشبه «خط التماس» بين الدولة والميليشيات، والقانون والواقع المفروض بقوة الأمر الواقع.
من الانقسام إلى إعادة التوحيد
تشكّلت هوية الجيش اللبناني الحديثة بعد عام 1990 على أنقاض جيش منقسم طائفياً في الحرب الأهلية، وتحت إشراف الوصاية السورية التي أعادت هيكلة المؤسسة وربطتها بقرار سياسي إقليمي. لكن، بحسب النائب السابق فارس سعيد، لم يكن الجيش شريكاً فعلياً في القرار السيادي، بل «ضحية مقايضات بين السيادة والاستقرار»، عادَّاً في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، أن «المؤسسة العسكرية بقيت أداة أمنية وليست سلطة سياسية، رغم توحيدها».
الاحتكاك في الضاحية
أولى المواجهات بعد «اتفاق الطائف» وقعت عام 1993، عندما أطلق الجيش النار على مظاهرة لـ«حزب الله» نظمها احتجاجاً على «اتفاق أوسلو»، وأسفرت عن سقوط قتلى. ثم توالت الاحتكاكات، أبرزها عام 2004 في الضاحية الجنوبية لبيروت، حين وقعت اشتباكات محدودة في مرحلة كانت فيها المؤسسة العسكرية تحاول إثبات حضورها ضمن خطوط حمراء رسمتها السطوة السياسية للحزب.
2005: حياد الجيش في لحظة مفصلية
مع اغتيال رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري في فبراير (شباط) عام 2005، دخل لبنان مرحلة مفصلية. يقول سعيد إن الجيش «تعامل بانضباط واحترافية مع مظاهرات 14 مارس (آذار)، ولم يضع حواجز أو يعطّل التجمّعات»، رغم وجود قرار رسمي بإزالة خيام المعتصمين، وقد تم تعطيله عبر طعن قضائي.
أما العميد المتقاعد سعيد قزح، فأشار إلى أن اللواء الراحل فرنسوا الحاج، مدير العمليات آنذاك، وجّه الألوية لتسهيل مرور المتظاهرين قائلاً: «نحن جيش وطن، لا نظام». ويضيف قزح في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»: «هذا الموقف المشرّف قد يكون أحد أسباب اغتياله لاحقاً».نهر البارد 2007: لحظة الالتفاف الوطني
خاض الجيش واحدة من أصعب معاركه في نهر البارد ضد تنظيم «فتح الإسلام» عام 2007، حيث خسر أكثر من 170 شهيداً. يصف سعيد ما حدث بأنه «لحظة نادرة في وحدة اللبنانيين خلف الجيش»، ويضيف: «طرابلس رفضت دفن الإرهابيين، واستقبلت الجنود بالورود».
أما قزح، فيوضح أن التنظيم «أُرسل من النظام السوري بعد انسحابه بهدف إشعال فتنة داخلية»، لكن الجيش «أفشل المشروع ودمّر إمارة شاكر العبسي (زعيم مجموعة فتح الإسلام) قبل أن تولد».
7 مايو 2008: الحياد موضع اتهام
شكّل اجتياح «حزب الله» لبيروت في 7 مايو (أيار) 2008 نقطة تحول في العلاقة بين المواطنين والجيش. يقول سعيد: «وقف الجيش متفرجاً ولم يتدخّل لمنع الاجتياح»، مضيفاً أن ترشيح العماد ميشال سليمان لرئاسة الجمهورية بعد ذلك بدا «مكافأة على الحياد، لا على المبادرة».
معركة الجرود 2017: نصر بلا تتويج
عام 2017، نفّذ الجيش عملية ناجحة ضد تنظيم «داعش» في جرود القاع ورأس بعلبك في البقاع الشمالي شرق لبنان. لكن، بحسب سعيد، عقد «حزب الله» صفقة لنقل عناصر التنظيم بالباصات إلى الحدود العراقية، بينما مُنع قائد الجيش آنذاك جوزيف عون من إقامة احتفال بالنصر. ويكشف قزح عن أن «الجيش كان على وشك تنفيذ المرحلة الأخيرة من الهجوم، لكن صدر قرار بوقف العملية بحجة صفقة تبادل أسرى»؛ ما أثار أسئلة حول دور (الحزب) والنظام السوري آنذاك في ذلك.17 أكتوبر والطيونة: حارس السلم الأهلي
لعب الجيش دوراً حاسماً خلال حراك أكتوبر (تشرين الأول) عام 2019؛ إذ، حسب قزح، «رفض قائد الجيش آنذاك جوزيف عون استخدام الذخيرة الحية لفتح الطرقات رغم أوامر رئاسة الجمهورية (الرئيس ميشال عون)»، واستخدم الحد الأدنى من القوة بعد أسبوعين من المظاهرات؛ ما حافظ على السلم الأهلي.
وفي أحداث الطيونة 2021، منع الجيش تفجّر حرب أهلية جديدة، بعدما حاول مسلّحون اقتحام عين الرمانة لفرض مشهد شبيه بـ7 مايو، وفق رواية قزح.
«حزب الله»… المعضلة
اليوم، في خضم «المعارك السياسية» الدائرة لسحب سلاح «حزب الله» بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة وما نتج منها من اتفاق وقف إطلاق النار، يؤكد سعيد أن «الجيش ليس أداة لحل أزمة السلاح، بل يجب أن يبقى قوة وطنية حيادية»، مشدّداً على أن «المعالجة تقع على عاتق الشرعية بكل مستوياتها، لا الجيش».
من جهته، يصف قزح «حزب الله» بأنه «تنظيم عسكري له جناح سياسي، وليس العكس»، قائلاً إن الحزب «يخدم مشروعاً إيرانياً لا علاقة له بالدولة اللبنانية، وسلاحه لا يحمي لبنان، بل يستدرج الضربات».تفكيك السلاح: من التصعيد إلى المبادرة
من هنا يدعو قزح إلى مقاربة عقلانية لسلاح (الحزب)، تبدأ بتصنيف وظيفي للأسلحة: «الصواريخ غير الدقيقة يجب إتلافها، والأسلحة المضادة للدروع تُقدَّم للجيش هبةً»، كما يقترح «سحب السلاح الخفيف المنتشر؛ لأن الخطر ليس في السلاح بحد ذاته، بل في التنظيم الذي يملكه».
الجيش خط الدفاع الأخير
يرى سعيد أن المؤسسة العسكرية «تجسّد العيش المشترك وتحظى بثقة كل اللبنانيين»، وهي بذلك «خط الدفاع الأخير عن الوطن». ويضيف: «لا تضعوا الجيش في مواجهة (حزب الله)، لا قرار ولا غطاء، والمواجهة هنا خاسرة سلفاً». ويؤكد أن «الجيش لا يزال الضمانة الوحيدة، شرط ألا يُستنزف في حسابات الطوائف والتوازنات، بل يُحمى ليبقى مؤسسة الدولة، لا ضحيتها».