الحرب على بعلبك

كتبت لوسي بارسخيان في نداء الوطن
تشكل مَلكة المجتمعات، بعلبك، الملتزمة عقائدياً وسياسياً في قلب الحقائق وتحويل خساراتها انتصارات، سمة عامة تتلبس أبسط يومياتها، إلى حدّ يصعب معه انتزاع لحظات تشاركية مع مكوناتها. تستطيع هذه المجتمعات أن تحجب كل وجه حقيقي بقناع، فتحوّر الحقائق كما تشاء، وتجتهد بإقناع الآخرين بأن هذا القناع هو الحقيقة فعلاً. قد تبدو “حالة دفاعية” تضع البيئة الملتزمة بمواجهة مع ما تعتبره تشفّياً بألمها. لكنها بالكتمان الذي تنزع اليه، تتخلى عن أبسط حقوقها بحياة متصالحة آمنة وكريمة. وهذا ما ينطبق على كل مجتمع جعل من عزلته سبباً لسلبه بريق كل عيد ومناسبة فرح. فماذا عن مدينة بعلبك والعيد؟

ليست سهلة مهمة استطلاع واقع مدينة الشمس التجاري والسياحي على مشارف شهر صوم منتهٍ وعيد فطر أصبح خلف الأبواب. بل يتحول سؤال “بريء” عن أحوال أهلها المعيشية والحياتية، “شبهة” بالتشفّي من جرحها الذي لا يزال ينزف جراء العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان، وهذا ما يصعب الخروج باستنتاجات موضوعية حول أحوالها.

لم تتزين بعلبك للعيد هذا العام. فهي وقرى محافظتها لا تزال تلملم جراحات مآسي الحرب التي تخيّم أصداؤها في فضاء المدينة المفتوح على تحليق دائم للطيران الاسرائيلي. تحاول مدينة الشمس، أن تسترد نور الحياة من ركام الموت والدمار في أحضانها. هي عزيمة أهالي بعلبك التي تبدو بلا شك عظيمة للخروج من المحنة بالممكن والمتوفر يحاول هؤلاء، ولو في ظلّ مستقبل غير مقروء.

يملك علي ياغي، المتخصص بعلم السياسة، “كشكاً” لبيع القهوة والسجائر منذ 47 عاماً في منطقة راس العين. العمل الخاص حتى لو لم يكن من ضمن اختصاصه، كان انسجاما مع قناعاته في عدم استعطاء أي وظيفة. فأمّن له حياة كريمة لأعوامٍ طويلة. إلا أن شهر رمضان هذا العام كان الأسوأ بين كل الأعوام. “فالجو ليس طبيعياً على الإطلاق” كما يقول “والناس متخوفون. لا يوجد بيت في بعلبك إلا ودخله الحزن، لذلك لن يكون العيد سوى للأولاد”.

متنفّس يختنق

تبدو حالة راس العين التي يتوسطها كشك الرجل، قبل ساعات من انتهاء شهر رمضان، كحال البحيرة التي تتوّج مرجتها الكبيرة، والتي جفت هذا العام قبل أوانها. شهدت هذه المنطقة حيوية استثنائية في شهر رمضان العام الماضي، وعلى الرغم من أصداء المعركة التي كانت محصورة حينها في جنوب لبنان، بدت المنطقة في حالة احتفال بالحياة مع أبناء القرى والمدن البقاعية التي تشكل بعلبك متنفسها الوحيد. لكن هذا المتنفس اليوم يختنق مجدداً، بعد أن دَمّرت اسرائيل عدداً من المؤسسات السياحية في المنطقة، وأغلق عدد أكبر منها أبوابه نهائياً. وهذا ما يجعل تداعيات الحرب تتخطى مظاهر الدمار الذي خلفته، على الرغم من المبادرات الفردية للنهوض بالمحلة مجدداً.

المقامرة بإعادة الإعمار

مطعم الرضا، أحد أكبر المطاعم في هذه المنطقة السياحية، كان واحداً من مؤسستين استهدفتا مباشرة. تحذير في يوم سابق للغارة عليه، غيّر مخططات أصحاب المطعم. وفقاً لما يقوله “أبو حيدر” “نحن لم نغلق أي يوم قبل استهدافنا، وربما يكون ذلك قد أثار شبهات إسرائيل، خصوصاً أن بعلبك تعتبر خزان حزب الله”.

الخسائر كبيرة جداً وفقاً لأبو حيدر. مع ذلك العمل جارٍ على إعادة المكان أفضل مما كان، بعد أن استحدث إلى جانب مطعمه، قيد التأهيل، “سناك” يقدم السندويشات والديليفيري للمنازل. يقول أبو حيدر “لا يمكن أن نتكتف وننتظر، فمن سيطعمنا؟ الدولة؟ فلتطعم نفسها أولا”.

مع ذلك يشعر الرجل أنه يقامر بالمجهول، فنحن كما يقول “لا نعرف إذا كانت الحرب قد انتهت فعلاً؟ وهل ستتكرر؟ لذلك نجد أن الناس غير مهتمة كثيراً بالعيد”. لكنه يتأمل خيراً “لأننا في لبنان شعب حلو وطيب، والعالم كله يحبه، ولا نحتاج سوى إلى الاستقرار الأمني لنعيش”.

تضررت منطقة راس العين معنوياً كما مادياً بسبب العدوان الإسرائيلي. والخسارة معممة على أصحاب أكشاك بيع العصائر والسكاكر، كما المطاعم وحتى على الفندق الوحيد الموجود في ساحتها. هذا الفندق الذي نشأ لخدمة السياحة الدينية تحديداً، لكنه اليوم يعاني من خواء كلي، مثله مثل حال البحيرة الجافة التي تجاوره.

الاستقرار في غيمة عبرت

عرف الفندق مع ذلك فترة ازدهار، خصوصاً مع تطور السياحة الدينية في محيطه. “إلا أن الأيام الجيدة، بقيت في بعلبك عموماً” كما يقول مواطن عرف عن نفسه باسم مرعب “كالغيم الذي يظهر أحيانا ويختفي. وبالتالي لا يمكن الحديث عن مرحلة ازدهار فيها، إنما هناك أيام جيدة قابلة للاستمرار فترة قصيرة أو الزوال فوراً، وذلك مقرون عموماً بظروف عدم الاستقرار التي نعيشها منذ فترة طويلة”.

هذه المعادلة لا يوافق عليها أربعة شبان كانوا يحرقون الوقت مع سجائرهم أمام بركة راس العين الجافة. بالنسبة لهؤلاء “فإن اليأس لا يمكنه أن يتسلل إلى بعلبك”. وعلى هذه القاعدة يتم التقليل من كل ملاحظة سلبية، من جفاف البحيرة وسكون مرجتها، إلى الحزن المخيم على أهل المدينة. حتى الموت والدمار الذي رافق العدوان الإسرائيلي الأخير، يتحول قدراً بالنسبة لأحدهم، “فكلنا سنموت” كما يقول “إنما الفرق في الطريقة التي نموت فيها” مفاخراً بالقول “إذا كان أصعب شيء في الحياة هو الموت، فنحن شعب لا يهاب هذا الصعب. فهل يمكن أن يخيفنا شيء”.

حركة بلا بركة

تمتد هذه التناقضات من راس العين إلى وسط المدينة وسوقها القديم. مع أن هذا السوق يبدو لزائره نهاراً في حيوية ما قبل العيد، لكنه في الواقع ليس كذلك وفقاً لما تجمع عليه معظم آراء أهل السوق.

لدى تجار كل قطاع في السوق قناعة بأن حركة العيد موجودة ولكن عند الآخر. فيقول البعض إن معظم حركة السوق حالياً تتجه إلى بيع الثياب، وهذا ما تنفيه إيمان الرفاعي.

لسان الحال يبدو واحداً لدى الانتقال من محلات الثياب إلى مؤسسات بيع الحلويات وسكاكر العيد. فيعدد هشام الجمّال أسباب الجمود بكون “الناس خرجت للتو من حرب وموت. كما أن الوضع الاقتصادي ليس جيداً. أو ربما ينتظر البعض راتبه ليصبح قادراً على الإنفاق” المهم أن كل الأمور مرتبطة ببعضها البعض بالنسبة له. لينهي كلامه بالاكتفاء بالموجود. معوّلاً “على الشعب اللبناني الذي يحب الحياة رغم كل شيء، بشرط أن يتركنا الزعماء بحالنا”.

في وسط الأقنعة

إلى ساحة بعلبك المقابلة لمبنى السراي الذي شغلته منذ فترة البلدية، انتقلنا للتحدث مع سائقي التاكسي وسط الفوضى العارمة التي يغرق بها المكان. إلا أن هؤلاء أيضاً لم يجمعوا على حقيقة واحدة. دعانا أبو الورد إلى الحضور مجدداً بعد الإفطار حتى نرى “كيف الناس فوق بعضها” لكن هذا ليس رأي حسين فرحات وعباس عثمان والحاج أبو عباس الذين تشغلهم هموم تأمين لقمة الإفطار، ويعتبرون أن “الوضع بات مخيفاً”.

وجدنا القناع، قناع الفرح، في المقابل عند صاحب بسطة لبيع الأحذية الشعبية. فوفقاً لما قاله “الحركة لم تهدأ في اليوم السابق. والناس هجمت على السوق وكأننا في ثورة. يقولون إن الناس ليس لديها مال، هذا ليس صحيحاً، الكل معه مال، “حزب الله” الذي يقولون إنه ضعف، يوزع الأموال على كل عائلة فقدت شهيداً، وهناك صناديق من الإعانات التي تصلها. هذا بالإضافة إلى امتلاء المطاعم ليلاً. عن أي أزمة وحزن يتحدثون؟ الوضع اليوم أفضل بكثير من السنوات الماضية”.

هذه الصورة المشرقة تغيب في أنحاء السوق مجدداً. فيتماهى كلام الرجل المتفائل مع مشهد الورشة التي نشطت على مداخل بعلبك لزرع شجر “التويا” بالتعاون بين جمعية التحريج اللبنانية واتحاد بلديات بعلبك. اذ لا تبدو الحملة، على أبواب الانتخابات البلدية القريبة، موفقة بحجب الإهمال وتقصير السلطات المتعاقبة، المحلية والمركزية، بحق مدينة تعتبر من أهم مدن العالم التاريخية.

لا شك أن بعلبك ليست بخير في استقبالها عيد الفطر هذا العام. ربما تحتاج إلى بعض الوقت للملمة جراحاتها النازفة جراء العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان. لكن جرحها الأعمق هو نتيجة إهمال مزمن يحتم عناية استثنائية، تعيد ضخ الحياة في المدينة بمعايير تتوافق مع أهميتها العالمية، ووفقاً لما تستحقه فعلاً. قد تكون البداية ربما بتوفير عوامل الاستقرار، وهذا ما ينشده البعلبكيون من عهد جديد، ويعتبرونه مفتاح الخلاص الذي يعيد وصل مدينتهم بباقي أنحاء لبنان والعالم. أما العيد فسيمضي بأفضل الممكن، وسيلبس الناس قناع الفرح أقله أمام أطفالهم، ليخفوا معالم القلوب الدامية عن وجوههم الحقيقية.

البحث