التاريخ الأوروبي

شهدت أوروبا الكاثوليكية والبروتستانتية بين القرنين السادس عشر والسابع عشر موجة مروعة من الخوف والارتياب تحولت إلى واحدة من أحلك فصول التاريخ: مطاردة الساحرات.

لم تكن هذه الظاهرة وليدة اللحظة، بل كانت ذروة تراكم قرون من الفكر اللاهوتي الذي ربط الخرافات الشعبية بعالم الشياطين، مجسدة في ملاحقات قضائية وحشية راح ضحيتها عشرات الآلاف، معظمهم من النساء.

ترجع الجذور الفكرية لهذه الهستيريا إلى كتابات القديس أوغسطين، الذي أرسى أول رابط بين الممارسات الخرافية وعالم الشياطين، مؤكداً أن تدخل الشيطان في شؤون البشر هو أصل الخطيئة، وهي فكرة تطورت عبر قرون في أدبيات رجال الدين في العصور الوسطى.

أما الشرارة العملية، فكانت المرسوم البابوي الصادر في 5 ديسمبر 1484 عن البابا إنوسنت الثامن المعروف باسم “بكل قوة الروح”. هذه الوثيقة منحت صلاحيات استثنائية لمحاربة ما وصفته بتهديد السحرة والزنادقة، وسمحت لمحاكم التفتيش بالتصرف بحرية، حتى هددت بالحرمان الكنسي أي شخص يعارض المحققين.

بتفويض من البابا، تسلم الراهبان الدومينيكيان هاينريش كرامر ويعقوب سبرينغر، مؤلفا الأطروحة الشهيرة “مطرقة الساحرات”، سلطة قضائية شبه مطلقة لبدء الحملة. جاء في نص المرسوم وصف تفصيلي لجرائم متخيلة تُنسب للسحرة، من إفساد المحاصيل وإلحاق الضرر بالحيوانات إلى التسبب بالإجهاض والتواطؤ مع الشياطين لإغواء الأبرياء، مرسخاً صورة لعدو خفي يهدد المجتمع بأكمله.

انطلقت الآلة القمعية لتدخل أوروبا عصر مطاردة الساحرات بكل رعبه. وبرز “صائدو الساحرات” والقضاة المدنيون والدينيون في طليعة المتحمسين، خصوصاً بعد نقل كثير من القضايا إلى المحاكم المدنية، التي خضعت لمزاجية الحكام المحليين وأهواء الجماهير.

أسفرت هذه المحاكمات عن سلسلة إدانات جائرة، حيث حُرم المتهمون من أبسط حقوق الدفاع، واعتمدت الأحكام على أدلة واهية مثل الشهادات المجهولة والإفادات المنتزعة تحت التعذيب. امتلأت السجون، وتحولت التهمة أداة للتخلص من الخصوم أو تسوية النزاعات على الميراث أو لقمع النساء المتمردات على الأعراف الاجتماعية.

بلغت المطاردات ذروتها في ألمانيا وسويسرا وإسكتلندا وفرنسا، مع محاكمات جماعية تحولت إلى مذابح علنية. يقدر الباحثون أن عدد من أُعدم تراوح بين 60,000 و80,000 شخص، مع تقديرات تصل إلى 100,000.

كانت طرق الإعدام قاسية ومهينة، من الحرق على الخوازيق إلى الإغراق والشنق، غالباً بعد تعذيب لإجبار الضحايا على الاعتراف. في بعض الحالات، أُجبر الأطفال على الإدلاء بشهادات ضد أمهاتهم.

مع ذلك، لم تكن ردة الفعل موحدة في كل أوروبا؛ ففي وسط فرنسا تصدت البرلمانات الإقليمية جزئياً للهستيريا، واستطاعت تبرئة المتهمين بعد فحص أدلة أكثر موضوعية. كما حاول بعض الأساقفة الألمان في البداية الحد من الاتهامات العشوائية، لكن أصوات المنطق خفتت تدريجياً أمام صخب الجماهير وخوفها.

استمرت هذه المأساة قروناً قبل أن تبدأ بالتراجع مع انتشار أفكار التنوير والعقلانية. ومن المفارقات أن آخر حادثة مطاردة ساحرات مسجلة في فرنسا جرت عام 1785، قبل قيام الثورة الفرنسية التي قضت على الكثير من مظاهر النظام القديم بما فيها محاكمات السحر.

هكذا، تبقى هذه الحقبة المظلمة شاهداً على هشاشة العدالة أمام الخرافة، وعلى القوة التدميرية للخوف الجماعي المسلح بسلطة دينية وقضائية، تاركة وراءها تاريخاً من الحطب المشتعل والأجساد الطافية على الماء والأرواح البريئة التي ذهبت ضحية أوهام جماعية تحولت إلى آلة قتل منظمة.

البحث