يشهد العالم سباقاً محموماً نحو تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، التي باتت تؤثر في بنية الاقتصادات، وتعيد تشكيل المجتمعات، وتحرك التوازنات الجيوسياسية. لكن، كما هو الحال مع الابتكارات الكبرى عبر التاريخ، فإن فوائد هذا التقدم ليست موزعة بالتساوي؛ بل تزداد الفجوة اتساعاً بين دول تملك موارد الحوسبة والبنية التحتية، وأخرى مهددة بالتهميش الرقمي.
مراكز الذكاء الاصطناعي: خريطة غير عادلة
بحسب بيانات جامعة أكسفورد، لا تتجاوز الدول التي تضم مراكز بيانات متقدمة للذكاء الاصطناعي 32 دولة فقط، تتركز غالبيتها في نصف الكرة الشمالي:
الاتحاد الأوروبي: 28
الصين: 22
الولايات المتحدة: 26
دول أخرى في آسيا: 25
بقية أوروبا: 8
هذا التوزيع غير المتكافئ يُترجم إلى تفوق تقني وهيمنة اقتصادية على مستقبل الذكاء الاصطناعي، في حين تفتقر أكثر من 150 دولة حول العالم إلى أي بنية تحتية مماثلة.
هيمنة الشركات الكبرى على قوة الحوسبة
تتحكم حفنة من الشركات في موارد الذكاء الاصطناعي، ما يزيد من التركّز التكنولوجي:
مايكروسوفت: 93 موقعاً للحوسبة السحابية
AWS: 84
غوغل: 66
علي بابا: 61
هواوي: 44
تينسنت: 38
هذه الأرقام تكشف أن التحكم بالبنية التحتية للذكاء الاصطناعي يتركّز في يد عدد قليل من الشركات، معظمها أميركية وصينية.
تكساس مقابل قرطبة: مشهدان لعالمين متباينين
في تكساس، تجهّز شركة “OpenAI” لإنشاء أحد أكبر مراكز الحوسبة في العالم، بميزانية ضخمة تبلغ 60 مليار دولار. في المقابل، يكافح باحثون في الأرجنتين مثل نيكولاس وولوفيك لإدارة مركز متواضع بإمكانات محدودة، معتمدين على معدات قديمة وجهود فردية.
يصف وولوفيك هذا الواقع بقوله: «كل شيء يزداد انقساماً»، وهو ما يعكس الإحباط العالمي في مواجهة تفاوت الفرص الرقمية.
الذكاء الاصطناعي كأداة للهيمنة
لم تعد الفجوة في الذكاء الاصطناعي مجرد فجوة في الوصول إلى الإنترنت، بل أصبحت ترتبط بـ “قوة الحوسبة” — وهي القدرة على معالجة البيانات الضخمة وتدريب النماذج المتقدمة. وهذا التفوق في البنية التحتية يعني:
احتكار البحث العلمي المتقدم
سيطرة على تدفقات البيانات
استقطاب الكفاءات
فرض المعايير التقنية العالمية
الهوامش الكبرى: القارات الأقل حظاً
في أفريقيا وأميركا الجنوبية، تكاد تغيب مراكز الذكاء الاصطناعي المتقدمة. حتى الدول ذات البنية التقنية مثل الهند (5 مراكز) واليابان (4 مراكز) لا توازي حجم الإنفاق في الولايات المتحدة أو الصين، مما يُعمق الهوة بين المركز والأطراف.
تداعيات تتجاوز التقنية
يمثل هذا الانقسام تهديداً حقيقياً للتنمية الشاملة. الدول المحرومة من بنية الذكاء الاصطناعي قد تصبح:
مستهلكة لا مُنتجة للتقنية
عاجزة عن صياغة سياسات رقمية
معتمدة على مزودي خدمات خارجيين بشروط غير متكافئة
الأمر لا يتعلق بالتكنولوجيا فحسب، بل بالسيادة الرقمية والعدالة الاقتصادية والابتكار المحلي.
مستقبل الذكاء الاصطناعي: مسؤولية جماعية أم احتكار نخبوي؟
في خضم هذا الاندفاع العالمي، تبرز أسئلة جوهرية:
هل يمكن اعتبار الوصول إلى الذكاء الاصطناعي حقاً عالمياً؟
كيف يمكن للدول النامية المشاركة في رسم ملامح المستقبل التقني؟
وهل التعاون الدولي قادر على ردم هذه الفجوة المتسعة، أم سيكرّس أنماطاً جديدة من التبعية والاستغلال؟
نقطة تحوّل عالمية
الذكاء الاصطناعي يُعدّ المحرك الرئيسي للثورة التكنولوجية المقبلة، لكن توزيعه الحالي يُنذر بمستقبل غير متوازن. مواجهة هذه الفجوة تتطلب استثمارات ضخمة، سياسات شاملة، وتعاوناً دولياً جاداً. فإما أن يكون الذكاء الاصطناعي فرصة عالمية مشتركة، أو يتحول إلى أداة لهيمنة قلة محظوظة.