كتب مروان حربفي”المدن”:
من المسلَّم به أنّ الدولة لا تقوم من دون احتكار العنف الشرعي. فحصرية السلاح هي الركيزة التي تمنحها القدرة على إدارة المجتمع بوصفها المرجع الوحيد للشرعية. لكن هذه الحقيقة، التي يُفترض أن تكون بديهية، تحوّلت في التجربة اللبنانية إلى ذريعة لتعطيل الإصلاحات، وإلى شعار مُعلّق يُستخدم لتبرير الشلل أكثر مما يُستخدم كمدخل لبناء الدولة.
اليوم، يواجه السلاح غير الشرعي منعطفاً حاسماً: فقدَ جاذبيته كرصيد استراتيجي، وتحول إلى عبء سياسي واقتصادي وأخلاقي على حامليه أنفسهم. لم يعد وسيلة للبقاء بل صار رمزاً للاستنزاف، ولم يعد عنواناً للقوة بل أصبح عنواناً للانقسام والتراجع. نحن أمام لحظة أفول، لا كحدث مفاجئ، بل كمسار تاريخي طويل يجرّد السلاح من معناه السياسي والأخلاقي ويدفعه نحو نهايته. والسؤال الجوهري يفرض نفسه: إذا كان لا قيام لدولة بلا حصرية السلاح، وإذا كان هذا السلاح يتآكل اليوم، فما الذي يجب على الدولة أن تفعله كي تستعيد ثقة مواطنيها؟
الجواب لا يكمن في انتظار اكتمال مسار الأفول وحده. فحصرية السلاح شرط ضروري، لكنها غير كافية. الدولة لا تستمد شرعيتها من احتكار القوة فقط، بل من قدرتها على أن تكون حقيقة يومية في حياة مواطنيها: عدالة تحميهم، خدمات تصون كرامتهم، ومؤسسات تمنحهم الأمان. الدولة التي لا تمتلك سوى السلاح تفقد شرعيتها سريعاً، بينما الدولة التي ترافق احتكارها للعنف بإصلاحات جذرية ومؤسسات فاعلة، تكتسب شرعية متجددة ومتينة.
هذا ما تؤكده تجارب دول أخرى. في رواندا، لم يكن تفكيك الميليشيات كافياً بعد الحرب الأهلية، بل ترافق مع بناء مؤسسات خدماتية أعادت ثقة الناس. في كولومبيا، كان اتفاق السلام مع “فارك” بداية مسار طويل من الإصلاح الاجتماعي. وفي جنوب أفريقيا، ارتبط تفكيك نظام الفصل العنصري بإعادة هيكلة الدولة على أسس المواطنة. هذه التجارب أثبتت أن نزع السلاح لا يكتسب معناه إلا حين يُدرج في مشروع أشمل قاعدته العدالة والمساواة والكرامة، وهي القيم التي وصفها عبد الرحمن الكواكبي بأنها أساس العمران وحصن الأمم من الهلاك.
لبنان اليوم أمام امتحان مماثل. فالسلاح يسلك مسار الأفول، لكن الخطر الأكبر يطلّ من انهيار القضاء، تفكك الاقتصاد، وانهيار الخدمات الأساسية. ما قيمة السيادة النظرية إذا كان المواطن لا يجد دواءً ولا كهرباء ولا مدرسة تحفظ مستقبل أبنائه؟ الشرعية الحقيقية تُختبر في هذه التفاصيل: هل الدولة كيان حاضر في ضمير الناس، أم مجرد سلطة شكلية بلا مضمون؟
إذن، نزع السلاح ليس المدخل الأوحد للخلاص. المطلوب مسار متوازٍ: إصلاح القضاء، إنعاش الاقتصاد، وتثبيت الخدمات الأساسية. اللبناني الذي يُحرم من العدالة والخبز والكهرباء لن يمنح الدولة ثقته، حتى لو اختفت كل البنادق. الشرعية لا تُبنى على الغياب، بل على الحضور الفعلي في حياة الناس. هذا ما فهمته المدرسة الشهابية في عهد الرئيس فؤاد شهاب، حين حاولت أن تجعل من الدولة مؤسسة حديثة تخدم مواطنيها لا مجرد سلطة تُديرهم.
فالسياسة، في جوهرها، ليست بحثاً عن المثاليات المستحيلة، بل عن الممكن الذي يحفظ الاجتماع الوطني. والممكن اليوم أن يُترك السلاح لمساره التاريخي نحو التلاشي، فيما تنكب الدولة على إعادة إنتاج ذاتها كحقيقة حية في وجدان مواطنيها. لكن الطبقة السياسية أمام امتحان لا مفرّ منه: إمّا أن تتحمل مسؤوليتها وتبادر إلى إصلاحات جذرية تعيد الثقة، أو أن تواصل التذرّع بخطاب السلاح لتغطي عجزها. وفي الحالتين، فإن لحظة الحقيقة اقتربت. فالشرعية ليست نصاً دستورياً جامداً، بل ممارسة يومية تُقاس بالخبز والدواء والكهرباء والعدل. هناك وحدها تُبنى الدولة… وهناك أيضاً تُهدم.