في أعماق صحراء تكلامكان القاسية، حيث الرياح الحارة تلفح الوجوه وتموج الكثبان كبحر ذهبي، يكمن لغز أثري حيّر العلماء لقرون. هناك، تحت الرمال، ترقد مومياوات ببشرة بيضاء وشعر بني وأحيانًا أشقر، محفوظة بشكل مذهل منذ آلاف السنين.
ليست هذه الصحراء مصرية، ولا ترتبط بحضارات الإنكا أو المايا، بل هي واحات متفرقة في وادي تاريم بغرب الصين، حيث ساعد المناخ الجاف وملوحة التربة في الحفاظ على الأجساد، لتصبح شواهد على فصل منسي من تاريخ البشرية.
تتميز المومياوات بملامح قوقازية واضحة: جبهات عريضة، أنوف طويلة، عيون عميقة، وشعر فاتح غالبًا مضفّر بأناقة. تحمل بعض الأجساد وشومًا معقدة، ويرتدي البعض الآخر ملابس منقوشة تشبه نسيج الترتان السلتي الأوروبي. لم يشبهوا السكان المحليين القدماء أو المعاصرين، وكأنهم انتقلوا فجأة من سهول أوروبا إلى قلب آسيا.
لا يقتصر الغموض على المظهر الخارجي، بل يمتد إلى ثقافتهم المادية. في أحد المدافن التي يعود تاريخها إلى نحو 3800 عام، وُجدت سيدة باسم “جميلة لولان” محاطة بقماش بديع وأعشاب وسلة حبوب ومشط، فيما وُضع بجانب رجل عجوز طويل القامة وطفل رضيع محنط أدوات طقسية. في إحدى المقابر، عُثر على سلة من الجبن، ما يعكس معرفة متقدمة بتربية الحيوانات وصناعة منتجات الألبان.
لطالما شكّلت أصول هؤلاء المومياوات لغزًا. هل هم التخاريون من آسيا الوسطى؟ أم أحفاد سكيثيين؟ أم مهاجرون من الحضارة الكلتية؟ كشفت تحليلات الحمض النووي الحديثة عام 2021 أنهم مجموعة فريدة ومعزولة وراثيًا: 72٪ ينتمون إلى سلالة شمال أوراسيا القديمة و28٪ إلى حضارات بحيرة بايكال في سيبيريا. كما ظهرت المجموعات الذكرية R1a وR1b الشائعة في أوروبا، والمجموعات الأنثوية C4 المرتبطة بشمال روسيا، ما يجعلهم شعبًا بلا أقارب معروفين.
عاش هؤلاء في واحات متفرقة، بنوا مساكن، زرعوا القمح والشعير، صنعوا الجبن، ودفنوا موتاهم بطقوس معقدة تشمل أغصان نبات الإيفيدرا والصنوبر، ما يشير إلى علاقات محتملة مع بلاد فارس ورمزية للحياة الأبدية. لقرون، ازدهرت ثقافتهم في صمت، لكن قبل نحو ثلاثة آلاف عام، اختفت هذه الحضارة بلا أثر واضح للحروب أو الكوارث، تاركة وراءها مقابرها ومومياواتها كشهود صامتين.
تطرح مومياوات تاريم أسئلة حول حركة الشعوب وتشابك الحضارات في العصور القديمة. كيف وصلت هذه المجموعة ذات الأصول الأوروبية-السيبيرية إلى غرب الصين؟ وكيف حافظت على هويتها المعزولة لقرون قبل أن تختفي فجأة؟
بينما تستمر رياح الصحراء في نحت الكثبان، تبقى هذه المومياوات بملامحها الأوروبية وقلبها الآسيوي، شاهدة على عالم قديم مترابط، حيث تقاطعت المصائر وتلاقت الثقافات بطرق أكثر غموضًا وإثارة مما يمكن تخيله. إنها ليست مجرد بقايا أثرية، بل رسالة غامضة من الماضي ترفض أن تُنسى.