تقنية تخزين البيانات على الحمض النووي كانت لسنوات طويلة ضيفاً محبوباً في مختبرات البحث، أشبه بكائن فضولي من الخيال العلمي يلوّح لنا من المستقبل. الخبر الذي عرضته العربية يعلن أن هذا الكائن خرج أخيراً من القفص الزجاجي إلى السوق، ليرفع حاجبيه بوقار علمي ويقول للأقراص الصلبة: انتهى زمنكما.
الفكرة نفسها تستحق ابتسامة إعجاب. تخيل تحويل ملفات الفيديو والصور والمخطوطات إلى سلسلة من الأحرف الأربعة التي تُكوّن الحياة نفسها. 0 و1 يصبحان A وC وG وT، وكأنك تقنع جهازك أن يتكلم لهجة الخلية بدلاً من لغة السيليكون.
الحمض النووي، بخلاف الأقراص التي تبلى مثل فاكهة منسية في الدرج، يجلس هادئاً في الظلام بلا كهرباء أو صيانة، محتفظاً بمحتواه آلاف السنين. السبب يعود إلى كثافة تخزينه الهائلة وقدرته الطبيعية على الصمود. علماء الآثار يستخرجون DNA من عظام عمرها عشرات آلاف السنين، فما بالك بDNA اصطناعي مُصمَّم خصيصاً ليعيش.
هناك طرافة علمية في الأمر. البشر كانوا يكتبون على الطين، ثم الرق، ثم الورق، ثم البلاستيك، والآن يعودون ليكتبوا داخل جزيء عضوي سبقهم بآلاف ملايين السنين. كأن التقنية تدور حول نفسها في سباق زمني جميل.
الجانب الفلسفي ممتع أيضاً. عندما يصبح بإمكاننا وضع أرشيفات دول وذكريات عائلات داخل جديلة كيميائية صغيرة، نكون قد اقتربنا من فكرة “ذاكرة الخلود” التي طالما داعبت خيال الأدب العلمي. طبعاً هذا لا يعني أن التقنية بلا حدود. ما زالت مكلفة، بطيئة في القراءة والكتابة مقارنة بوسائط اليوم، وتعتمد على سلسلة عمليات مخبرية دقيقة. لكنها تعمل، وهذه لحظة نادرة يشعر فيها المستقبل بأنه وصل بالفعل.
من هنا يمكن الانزلاق إلى أسئلة أعرض: ماذا يحدث عندما تصبح الحضارات قادرة على حفظ كل شيء تقريباً دون خوف من الضياع؟ كيف يتغير معنى الأرشيف، والهوية، والذاكرة الجمعية؟ ربما يصبح تاريخنا أثقل، وربما تصبح ثقافتنا أوضح، وربما يتحول كل هاتف في جيب شخص ما إلى حارس مكتبة كيميائية صغيرة.
التطورات في هذا المجال غالباً ستقود إلى مرحلة تندمج فيها المعلومات مع المادة على نحو أكثر غرابة، حيث يصبح التخزين جزءاً من بيولوجيا مصنّعة، وليس مجرد صندوق إلكتروني.